في العصور القديمة، كان الملوك يقومون بشنق الُرسل الذين يحملون لهم أنباء سيئة. وفي عصور أكثر حداثة، أصبحت الخلافات تندلع بين محللي الاستخبارات (أولئك الذين يقومون بتفسير معاني الاستخبارات والمعلومات الخام)، وبين صناع السياسات الذين يقوم المحللون بإعداد التحليلات من أجلهم. وتنشأ المشكلة، عندما يكون صانع السياسة ملتزماً بسياسة معينة، لا تدعمها الاستخبارات والمعلومات التي يتم الحصول عليها.
وزير الدفاع الأسبق روبرت ماكنمارا، يشرح كيفية حدوث هذا الأمر في فيلمه الوثائقي المعنون (ضباب الحرب)، الذي يروي فيه قصة حياته. في هذا الفيلم يقول ماكنمارا إن الإيمان بشيء معين، لا يجعله صحيحاً بالضرورة. السياق الذي أراد مكنمارا أن يثبت فيه ذلك هو ما حدث في خليج تونكين في شهر أغسطس من عام 1964. ففي ذلك الوقت، وردت تقارير من البحرية الأميركية، تفيد بوقوع هجوم بزوارق الطوربيد التابعة للفيتناميين الشماليين، على مدمرتين أميركيتين كانتا تقومان بأعمال الحراسة في المياه الدولية.
كان أعضاء جهاز صنع السياسة في إدارة جونسون (الرئيس، ووزير الخارجية دين رسك، ووزير الدفاع، روبرت ماكنمارا، ومستشار الأمن القومي، والت روستو) يعتقدون اعتقادا جازما- وأرادوا من الشعب الأميركي ومن العالم أن يعتقد معهم- أن التقارير الواردة من البحرية صحيحة تماماً، ولا يرقى إليها الشك. ومن هذا المنطلق قدم الرئيس جونسون- ووافق الكونجرس- طلب المصادقة على قرار يفوض الرئيس بالقيام بما يشاء في فيتنام. وكان صدور هذا القرار هو الذي مكن الرئيس جونسون من خوض الحرب الأوسع نطاقا، والتي كان يدعي علناً أنه لا يسعى إليها.
وبعد أن تكشفت الحقائق واحدة تلو الأخرى على مدار الشهور التي تلت ذلك فإنه تبين:
-أن إحدى المدمرتين لم تتعرض للهجوم على الإطلاق، وأن الهجوم على الأخرى، كان مشكوكاً فيه.
-أن السفن الأميركية لم تكن في مهمة دورية بريئة، وإنما كانت تقوم بمهمة سرية تهدف لاستفزاز الفيتناميين الشماليين، ودفعهم لتشغيل راداراتهم الساحلية، حتى تتمكن القوات البحرية الأميركية من كشف الذبذبات الخاصة بها.
هناك وجه شبه واضح بين تلك الحادثة، وبين النزاع الحالي الذي يدور بين الاستخبارات وصناع السياسة الأميركيين، بشأن الاستخبارات التي تم الحصول عليها من العراق. لقد بنت إدارة بوش التبريرات التي استندت عليها لشن الحرب على العراق، على فرضية تقول إن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، قد جعل حكومة صدام حسين تمثل خطراً واضحاً ووشيكاً بالنسبة للولايات المتحدة. ووفقا للمنطق الذي استخدمه بوش، فإن ذلك الخطر، قد جعل من الإطاحة بنظام حكم صدام حسين، هدفا حتميا وضروريا لحماية الأمن القومي الأميركي. وقد انهار الأساس الذي قامت عليه تلك السياسة، عندما قدمت الـ"سي آي. إيه" تقارير تقول فيها إنها تخشى أن تقول إن أسلحة الدمار الشامل العراقية لم توجد.
في حالة خليج تونكين، أرادت الإدارة من الشعب الأميركي ومن العالم أن يصدقا معلومات خاطئة. أما في حالة العراق فإن صناع السياسة أرادوا من الشعب الأميركي والعالم أن يكذبا معلومات صحيحة. فصناع السياسة في الحالتين قاموا بتحديد السياسة ورسمها، قبل أن يطلعوا على المعلومات. وعندما جاءت المعلومات واتضح أنها لا تتوافق مع السياسة، فإنهم قاموا بتحريف المعلومات كي تصبح متوافقة معها.
وهذه الممارسة لم تقتصر على فيتنام أو العراق فقط. فالرئيس جونسون سمح أيضاً لخوفه من قيام الشيوعيين بالاستيلاء على السلطة في جمهورية الدومينيكان، بأن يتغلب على الحقائق التي وردت في التقارير التي تلقاها من استخباراته والتي كانت تهوّن من شأن ذلك الخطر. كان جونسون راغبا بشدة في تأكيد ما كان يعتقده، إلى درجة أنه قام بإرسال عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف. بي.آي ) للعثور على معلومات، كانت الـ"سي آي إيه" قد قالت إنها ليست موجودة (لم يتمكن الأف بي آي أيضا من العثور على مثل تلك المعلومات).
وفي إيران، كان الرئيس كارتر ملتزماً للغاية بتأييد شاه إيران، إلى درجة أنه تجاهل التقديرات التي كانت تشير إلى قرب الإطاحة بنظام الشاه. وبالإضافة إلى العقلية المغلقة لصناع السياسة، فإن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في إيران، كانت مقيدة ببنود اتفاقية لم يتم التفكير فيها جيدا قبل توقيعها وكانت تنص على عدم السماح لعملاء الوكالة بجمع الأخبار بشكل مستقل عن جهاز الاستخبارات الإيراني (السافاك).
وما حدث في ذلك الوقت، هو أن الصحافة الأميركية التي لم تكن مقيدة بذلك القيد، قدمت روايات خبرية أفضل من التقارير التي قدمتها الـ"سي آي إيه". ولكن المشكلة كانت هي أن مصداقية تلك التقارير كان مشكوكاً فيها، بسبب الميل الموجود لدى مسؤولي الحكومة، إلى عدم تصديق أي تقرير غير مؤشر عليه بعبارة (سري للغاية). وكانت النتيجة هي اندلاع الثورة الإسلامية الراديكالية، التي احتلت السفارة الأميركية واحتفظت بدبلوماسييها رهائن لمدة 14 شهراً.